خواطر عن المساجد والأئمة (1/2)

✍️ بقلم: أحمد محمد حسن زيدان
لشهر رمضان المبارك في المملكة العربية السعودية طابع خاص ومميز. لقد تسنى لي – بحكم عملي الوظيفي السابق في وكالة الوزارة – أن أصوم رمضان في بلدان عديدة، لكنني لم أشعر فيها قط بما أشعر به في الصيام بالمملكة من عبق روحاني زكي يغلف الحياة والأحياء فيها.
هذا الشعور يزداد وضوحاً وعمقاً في المدن المقدسة وما جاورها، وبشكل خاص في صلوات التراويح والتهجد، خاصة إذا كان الإمام حسن الترتيل رخيم الصوت.
ذكريات من المسجد الحرام ومسجد الأندلس
في الأعوام السابقة، اعتدنا أداء صلوات التراويح والتهجد في جو روحاني بالمسجد الحرام. لكن بعد التوسعات الضخمة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين – جزاه الله خيراً – وما وفرته حكومته من تسهيلات للوافدين إلى المشاعر، ازداد عدد المصلين في المسجد وازدحم المرور بين مكة وجدة.
مسجد الأندلس: قصة روحانية لا تُنسى
أصبحنا نؤدي هذه الصلوات في جدة، في مسجد أنشأه أحد المحسنين المعروفين بجوار قصره في حي الأندلس، ووفّر له كافة مستلزماته بدقة متناهية. وكان موفقًا في اختيار الإمام الذي جمع بين الصلاح، حسن الترتيل، ورخامة الصوت.
ما زلت أذكر ذلك الإمام – رحمه الله – وقد توفي ساجداً وهو يؤم المصلين بعد دعاء ختم القرآن. قيل إن المحسن كان يستعين بالشيخ محمد باحارث – رئيس جمعية تحفيظ القرآن آنذاك – لاختيار الأئمة المؤهلين.
الإمام الذي خلفه كان أيضًا موفقًا في أدائه، وامتلأ المسجد بالمصلين رجالًا ونساءً، حتى اضطررنا لاستخدام الدور الأرضي كمصلى إضافي للنساء، وصار من الصعب إيجاد موقف للسيارات بسبب الإقبال الكثيف من أحياء أخرى.
لحظات لا تُنسى في صلاة التهجد
في أوقات السحر، تتجه آيات القرآن المرتلة من فم الإمام مباشرة إلى القلوب، فينصرف المصلّون إلى ربهم بالدعاء والتضرع، موقنين بالإجابة، مستحضرين قوله تعالى: “ادعوني أستجب لكم”.
التغيير والتحديات
اضطر الإمام للسفر للعلاج، وقلّت الصفوف، وانتقل الناس إلى مساجد أخرى تؤدي الصلاة بنفس العدد من الركعات. قيل إن انتقال المحسن إلى شمال جدة أسفر عن توجيه رعايته لمسجد جديد، وأسند أمر اختيار الإمام إلى جهة تختار أئمة من خارج جدة، دون مراعاة لحسن الترتيل أو الصوت.
أهمية اختيار الإمام المناسب
لا يكفي بناء المسجد لتعميره، بل يُعمر بكثرة المصلين، والإمام هو محوره. لا بد أن يجمع الإمام بين حفظ القرآن، حسن الترتيل، ورخامة الصوت.
عن رسول الله ﷺ: “ليس منا من لم يتغن بالقرآن”. وكان صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من أبي موسى الأشعري، وقال له: “لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داوود”.
دعوة للمحسنين
أنصح كل من أنشأ مسجدًا أن يستشير جمعية تحفيظ القرآن لاختيار الإمام، وأن يختار من القراء المحليين لتفادي الوساطات، وضمان عمارة المسجد بالمصلين.
حكمة الملك المؤسس
أستذكر هنا ما قاله الملك عبدالعزيز – رحمه الله – حين عيّن الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمامًا للمسجد الحرام رغم كونه غير سعودي: “راعيت بذلك مصالح الأمة وتماسكها، ولكي لا يظن أحد أننا نتحيز لأنفسنا”.
وكان للشيخ أبو السمح صوت جهوري وأسلوب مؤثر في ترتيل القرآن. ما زلت أذكر رهبة صوته حين كان يتلو: “والسماء ذات الرجع…” أثناء صلاة الفجر، فكأن الكون كله أنصت لتلك الآيات.
تساؤلات ومعايير جديدة
هناك تساؤلات حول معايير اختيار أئمة الحرمين اليوم. كثيرون يرون أن أئمة مؤهلين من أمثال الشيخ محمد أيوب يستحقون التمثيل في الإمامة. ويمكن تحقيق التوازن بزيادة عدد الأئمة وتناوبهم من مختلف المناطق.
خادم الحرمين الشريفين – جزاه الله خيرًا – لم يتوانَ في دعم الحرمين، والحكومة الرشيدة لن تتردد في تخصيص الميزانيات اللازمة لذلك.
(يتبع)