البدايات المكية والملامح المبكرة للتميّز
وُلد الشيخ أحمد محمد زيدان في مدينة مكة المكرمة عام 1332هـ (1913م)، في حي المسفلة، أحد أعرق أحياء المدينة في ذلك الوقت. شهدت مكة حينها فترة انتقالية، حيث كانت المملكة تمر بمخاض التوحيد والنهضة، وكانت المدينة مركزًا روحيًا وثقافيًا يؤمّه الحجاج والعلماء والتجار من جميع أنحاء العالم الإسلامي. في هذا المناخ الغني وُلدت شخصية فريدة جمعت بين الأصالة والانفتاح، بين العمق الديني والتطلع التقني.
بيئة الطفولة
ينتمي الشيخ أحمد إلى أسرة زيدان الحجازية، ذات الجذور العريقة، والتي عُرفت بالتقوى وحب العلم. كان والده تاجرًا بسيطًا، وجده من رواد المجالس المكية، وكان لهما بالغ الأثر في غرس القيم الأخلاقية والاعتماد على الذات في نفسه. تربى في بيتٍ يقدّر الضيافة والعلم، ويتفاعل مع العالم من حوله، سواء من خلال الحجاج أو التجار الذين يزورون مكة موسمًا بعد آخر.
منذ طفولته، أظهر ميلًا ملحوظًا إلى الأشياء التقنية، فكان ينظر بدهشة إلى الأسلاك، البطاريات البدائية، أدوات الإرسال، والمذياع حين دخل المدينة لاحقًا. لم تكن هذه مجرّد أدوات في عينيه، بل بوابات إلى فهمٍ جديد للعالم. سُجّلت له ملاحظات مبكرة في محيطه بأنه “لا يُشبه الأطفال”، بل دائم التفكير والتأمل.
مسيرته التعليمية
1. الكتاتيب وحفظ القرآن:
بدأ الشيخ تعليمه في الكتّاب القريب من منزله، حيث أتمّ حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة. تعلم التجويد والخط العربي، وكان يتردد على حلقات العلم في المسجد الحرام، حيث تأثر بأسلوب المشايخ في الطرح، والجدية في طلب العلم. هذه المرحلة كانت حجر الأساس في بناء شخصيته الروحية والعقلية.
2. المدارس النظامية:
في عصر لم تنتشر فيه المدارس النظامية بعد، كان الشيخ أحمد من الأوائل الذين التحقوا بها في مكة. من أبرز المدارس التي درس بها:
- دار الفائزين: تعلّم فيها مبادئ اللغة والمنطق.
- المدرسة الفخرية: ركزت على التربية الأخلاقية والعلوم الشرعية.
- المدرسة الرحمانية الابتدائية بالمسعى: أول مدرسة حكومية في المملكة، زارها الملك عبدالعزيز بنفسه عام 1354هـ. تلقى فيها علومًا متقدمة في ذلك الوقت، وشهدت هذه المدرسة بداية وعيه الاجتماعي والوطني.
- مدرسة الفلاح: التحق بها لتعلم اللغة الإنجليزية، وكان متفوقًا في الاستماع والمحادثة رغم صعوبة المصطلحات التقنية.
3. التعلم الذاتي:
برز تفوقه الحقيقي في سعيه وراء المعرفة خارج الفصول الدراسية. كان يجمع المجلات التقنية القادمة من الهند ومصر، ويتعلّم من خلالها عبر الترجمة بمساعدة من يجيد الإنجليزية. كما اشتهر بزياراته المستمرة لمحلات تصليح الراديو وأجهزة التلغراف، حيث كان يراقب ويجرب ويصلح ويتعلم.
جمع بين حفظ النصوص ومهارات اليد، بين التأمل والصنعة، مما أهّله لاحقًا ليكون من أوائل الفنيين السعوديين الذين يجمعون بين المهارة والخبرة والرؤية.
بوادر التخصص والتميّز المهني
بفضل تفوقه المبكر، التحق في سن مبكرة بـ معهد اللاسلكي الفني في جدة عام 1354هـ، وكان من أوائل السعوديين الذين نالوا تدريبًا رسميًا على أجهزة الإرسال اللاسلكي. وقد أظهر تميزًا نادرًا في إتقان الشيفرة المورسية (Morse Code)، الأمر الذي أهّله ليكون ضمن النواة الفنية الأولى لتأسيس البنية التحتية للاتصالات في المملكة.
أثر الطفولة والتعليم على مسيرته
لقد لعبت بيئة مكة، بتنوعها الثقافي وتقاليدها العريقة، دورًا حاسمًا في صقل شخصيته. كما أن تجاربه التعليمية المبكرة زرعت فيه حب الانضباط، وفتحت أمامه الأبواب لفهم التقنية كوسيلة لتوصيل القيم والخدمة الوطنية.
هذه النشأة لم تكن مجرد مرحلة زمنية، بل كانت منصة انطلاق لرجل سيصبح أحد المؤسسين الأوائل لقطاع الاتصالات في المملكة العربية السعودية.